أن يقصد الإنسان لقاء ربه.. الحج معناه القصد.. فالذي لا قصد له، لا حج له.. ومن المعلوم أن القصد حركة فيالقلب، أي أن جوهر الحج أمر قلبي.. فالحج هو القصد، والقصد موقعه القلب.. وبالتالي، فإن قوام الحج هو بهذه الحركة القلبية.. فالإنسان في الحج يقصد شيئاً، فما هو المقصود في الحج؟.. هنالك مقصود أولي، وهنالك مقصود ما وراء هذا المقصود الأولي.. ففي الدرجة الأولى -بالعنوان الأولي- الحاج يقصد بيت ربه، وينوي الإتيان بالنسك المعهودة؛ ولكن الحاج له هدف أرقى من الإتيان بالنسك، ألا وهو لقاء رب العالمين، كما قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.. فالقرآن يفتح شهيتنا على هذه الدرجة العالية من الكمال: أن يقصد الإنسان لقاء ربه.. فإذن، هنالك لقاء مع بيته، ومع مسعاه،
الواضح جداً أنه من خواص قلب الحاج: (لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، بل تدركه القلوب بحقائق الإيمان).
– أن يقصد تغييراً جوهرياً في باطنه.. أن يذهب للحج، ليرجع بشخصية وهوية جديدة، بهوية إلهية.. يرجع وهو على خلق ذلك النبي العظيم، الذي بنى هذا البيت، وعلمنا المناسك، ألا وهو نبي الله إبراهيم الخليل (ع) الذي بيّن أرفع الدرجات في الاستسلام للأمر الإلهي، حيث قام بما قام من محاولة ذبح ولده إسماعيل، ومن ترك ذريته بوادٍ غير ذي زرع، وقبل ذلك: تحطيم الأصنام، واستعداده لأن يلقي في تلك النار الموقدة وغير ذلك.. فإذن، إن من أراد الحج، لابد من أن يعيش هذه المعاني.
– إن من المناسب للحاج أن يطّلع على بعض المؤلفات القديمة، التي تبين الآداب الباطنية لهذا العمل العظيم.. ومن الممكن أن يستنبط بعض هذه الفلسفات، من خلال مراجعة الكتب الروائية أيضاً.. فإن كتبنا الروائية ثرية بالمضامين العالية: كوسائل الشيعة، أو بحار الأنوار، وغيرها من الكتب.. فإن المجموعات الحديثية ضرورية، من أجل معرفة ما ذكره المعصومون (ع).. كما أنه لا يفهم القرآن إلا من خوطب به، فكذلك إن الحج الكامل، الحج الذي أراده الله عز وجل، يفهمه أولئك الذين استغرقوا في جلال الله وجماله، واستوعبوا فلسفة الحج كما أراد الله -سبحانه وتعالى- لهم.
بعض آداب ما قبل السفر:
– الاستحلال.. إن من اللازم للحاج قبل أن يخرج من بلده، أن يقوم بالاستحلال.. أي طلب الحلية من الخلق، من التبعات المالية، أو التبعات الأخلاقية.. فإذا كانت عنده تبعات أخلاقية: هنالك من هتكه، أو من كسر قلبه، أو من اغتابه…؛ فإن عليه أن يطلب منهم الحلية، ولو بنحو الإجمال، ولا يجب أن يذكر التفاصيل.. ولكن الذين آذاهم ولو بشطر كلمة أو ما شابه ذلك، فعليه أن يسترضيهم قبل الحج، وخاصة الأرحام.. ومن الذين يجب إرضاؤهم قبل موسم الحج، الذين لنا معهم علاقات رتيبة: كالزوجة -مثلاً-، أو الزوج، فإن هذه العلاقة المتكررة اليومية، من الممكن أن تكون في مظان تجاوز بعض الحدود، لأن الإنسان قد يستسهل ظلم الزوجة، باعتبار أنه ألف المعيشة والحياة معها، ومن هنا قد يتجاوز الحدود الإلهية في هذا المجال.. وكذلك بالنسبة إلى التبعات المالية، أيضاً من المناسب جداً أنيستبرئ الذمم.. كأن يكون هنالك خمس في الذمة، أو تبعات مالية: كرد المظالم، أو مجهول المالك، أو بعض الديات…؛ ليراجع عالماً من علماء الدين -وكيل مجتهده أو غيره-، ويحاول أن يصفي الحسابات المالية بينه وبين الله سبحانه وتعالى.
– التهيئة الروحية والفكرية: نقترح أن يأخذ الإنسان فترة من الاعتكاف الروحي -إن صح التعبير- قبل موسم الحج، بأسبوع أو بعشرة أيام.. وإن أمكن أن يأخذ إجازة قبل موسم الحج؛ ليهيئ نفسه روحياً وفكرياً، من خلال المطالعات المناسبة لهذا الأمر، ومن خلال التدبر والتأمل في فلسفة الحج؛ لأنه في زحمة الحج وفي قمة انشغاله بإتيان المناسك، من الممكن أن لا يعطي الأمر حقه.
– مراعاة أدعية ما قبل السفر.. ينبغي للإنسان عندما يتحرك لزيارة بيت الله عز وجل، أن يراعي آداب السفر.. فهنالك بعض الصلوات والأدعية الواردة قبل السفر: كدعاء ركوب السفينة أو الدابة أو الطائرة أو السيارة.. وليحاول الإنسان أيضاً أن يبدأ سفراً روحياً بكل معنى الكلمة، متخلقاً بكل الآداب والأخلاقيات التي وردت في الشريعة بالنسبة إلى الحج.. وليعلم الحاج أن الإنسان بمجرد أن يخرج من البيت، فقد بدأت حجته، وهو في ضيافة الله عز وجل، وضيف الله بمجرد أن يخرج من منزله، فإن كل ما يصيبه فهو في وجه الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ}.ومع أرض عرفته، ومع أرض مناه وما شابه ذلك.. وهنالك لقاء مع الله عز وجل، أو لقاء به، وهذا اللقاء من