فلسفة الحج و حكمة تشريعه ؟
الحج عبادة مُتميِّزة و شَعيرةٌ مقدسة ذات أهمية كبرى ، و هو من أهم الفرائض الدينية التي فرضها الله عَزَّ و جَلَّ على المسلمين ضمن شروط خاصة .
و نحن المسلمون لا نشكَّ في أن الله عَزَّ و جَلَّ لم يُشَرِّع الحجَّ إلا لحِكمةٍ و مصلحةٍ ، و ذلك لأنه جَلَّ جَلالُه حكيمٌ عالِمٌ بمصالح العباد ، و الحكيم لا يصدُر منه إلا ما يكون فيه مصلحةٌ و فائدةٌ .
و نحن أيضاً نؤمن بأن الحج تشريعٌ إلهيٌ لا يخلو تشريعه ـ كغيره من العبادات و التشريعات الإلهية ـ من المصالح و الحِكَم و الأهداف و الفوائد الجمة .
و من الواضح إن السعي وراء معرفة فلسفة تشريع الحج أو غيره من التشريعات الإلهية عمل حسن و جيد ، إلا أنه لو لم نتمكن من معرفة حِكمة التشريع فذلك لا يؤثر على طاعتنا للشريعة الإسلامية مادمنا نؤمن بأنها من جانب الله ، و ما دمنا نؤمن بصدق الرسول الكريم ( صلى الله عليه و آله ) الذي جاء بهذا التشريع الإلهي و قام بتبليغه إلينا ، فنحن متعبدون بكل الأحكام و التشريعات الإلهية سواءً عرفنا علل تشريعها أم لا ، إيماناً منا بحكمة مشرِّعها و منزِّلها العالِم الحكيم .
و من حُسن الحظ فإن الآيات القرآنية و الأحاديث الشريفة قد كشفت لنا عن جوانبَ من فلسفة الحج و بيَّنت شطراً من الأهداف و المقاصد المنشودة من تشريع هذه الشريعة المقدسة ، لكن ما تمَّ الكشف عنه قد لا يكون إلا جزءً من المصالح و الفوائد و الحِكَم و الأهداف التي من أجلها شُرِّعَ الحج .
فلسفة الحج في القرآن الكريم :
أشار القرآن الكريم إلى أهداف هذا التشريع الإلهي المهم بصورة مُجْمَلَة ، قال الله عَزَّ و جَلَّ : ﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ 1 ، و هذه الآية صريحة في إشتمال الحج على منافع للناس ، و لا بد أن هذه المنافع و الفوائد تُشكِّل جزءً من فلسفة الحج و أهدافه المنشودة .
و لو أردنا إلقاء الضوء على المنافع المتصورة للحج لوجدناها كثيرة و متنوعة لا تكاد تجتمع في غيرها من العبادات ، و هذه المنافع بعضها عبادية و بعضها تربوية ، و أخرى إقتصادية و تربوية و سياسية و إجتماعية و وحدوية .
فلسفة الحج في الأحاديث الشريفة :
تحدَّثت الأحاديث و الروايات الشريفة عن جوانب من المنافع التي أجمل القرآن الكريم في بيانها ، كما تحدثت عن فلسفة تشريع الحج ، و إليك عدداً من هذه الأحاديث :
1. قال أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) في جملة ما أوصى به و هو يُبيِّن أهمية الحج و أنه رمز بقاء الإسلام : ” … اللَّهَ اللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ فَلَا يَخْلُو مِنْكُمْ مَا بَقِيتُمْ ، فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا 2 ، وَ أَدْنَى مَا يَرْجِعُ بِهِ مَنْ أَمَّهُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا سَلَفَ … ” 3 .
2. و قال ( عليه السَّلام ) أيضاً مُذكراً أهمية هذه الشعيرة الإلهية المقدسة : ” … جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ عَلَماً … ” 4 .
3. و يقول ( عليه السَّلام ) في حديث آخر : ” فَرَضَ اللَّهُ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ ، وَ الصَّلَاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ ، وَ الزَّكَاةَ تَسْبِيباً لِلرِّزْقِ ، وَ الصِّيَامَ ابْتِلَاءً لِإِخْلَاصِ الْخَلْقِ ، وَ الْحَجَّ تَقْرِبَةً لِلدِّينِ … ” 5 ، أي أن الحج سببٌ لتقارب الأمة الإسلامية و تماسكها و وحدتها و رَصِّ صفوفها ، و قد نُقِلَ هذا الحديث بلفظ آخر هو : ” … وَ الْحَجَّ تَقْويَةً لِلدِّينِ … ” 6 ، أي أن الحج منشأ قوة الدين الإسلامي و حيويته .
4. و مما جاء في خطبة السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) : ” … فجعل اللّه الإيمان تطهيرا لكم من الشرك ، و الصلاة تنزيها لكم عن الكبر ، و الزكاة تزكية للنفس ، و نماء في الرزق ، و الصيام تثبيتا للإخلاص ، و الحج تشييداً للدين … ” 7 .
5. وَ رَوى هِشَامُ بْنِ الْحَكَم قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ 8 ( عليه السَّلام ) فَقُلْتُ لَهُ : مَا الْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا كَلَّفَ اللَّهُ الْعِبَادَ الْحَجَّ وَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ؟
فَقَالَ : ” إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ ـ إِلَى أَنْ قَالَ ـ وَ أَمَرَهُمْ بِمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ الطَّاعَةِ فِي الدِّينِ وَ مَصْلَحَتِهِمْ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ ، فَجَعَلَ فِيهِ الِاجْتِمَاعَ مِنَ الشَّرْقِ وَ الْغَرْبِ لِيَتَعَارَفُوا ، وَ لِيَنْزِعَ كُلُّ قَوْمٍ مِنَ التِّجَارَاتِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَ لِيَنْتَفِعَ بِذَلِكَ الْمُكَارِي وَ الْجَمَّالُ ، وَ لِتُعْرَفَ آثَارُ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه و آله ) وَ تُعْرَفَ أَخْبَارُهُ وَ يُذْكَرَ وَ لَا يُنْسَى ، وَ لَوْ كَانَ كُلُّ قَوْمٍ إِنَّمَا يَتَّكِلُونَ عَلَى بِلَادِهِمْ وَ مَا فِيهَا هَلَكُوا وَ خَرِبَتِ الْبِلَادُ وَ سَقَطَتِ الْجَلَبُ وَ الْأَرْبَاحُ وَ عَمِيَتِ الْأَخْبَارُ ، وَ لَمْ تَقِفُوا عَلَى ذَلِكَ ، فَذَلِكَ عِلَّةُ الْحَجِّ ” 9 .
6. وَ رَوى خَالِدُ الْقَلَانِسِيّ عَنْ الامام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) أنهُ قَالَ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ( عليه السلام ) : ” حُجُّوا وَ اعْتَمِرُوا تَصِحَّ أَبْدَانُكُمْ ، وَ تَتَّسِعْ أَرْزَاقُكُمْ ، وَ تُكْفَوْنَ مَئُونَاتِ عِيَالِكُمْ ، وَ قَالَ : الْحَاجُّ مَغْفُورٌ لَهُ وَ مَوْجُوبٌ لَهُ الْجَنَّةُ وَ مُسْتَأْنَفٌ لَهُ الْعَمَلُ ، وَ مَحْفُوظٌ فِي أَهْلِهِ وَ مَالِهِ ” 10 .
الحج مؤتمر إسلامي كبير :
الحج ليس عملاً عبادياً فحسب ، بل يُعَدُّ من أحد أهم الشعائر الإلهية التي أنعم الله بها على الأمة الإسلامية خاصة دون غيرها من الأمم ، و هو بحكم الجهاد بالنسبة إلى الضعفاء من المسلمين ، قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : ” … وَ الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ … ” 11 .
و الحج مؤتمر إسلامي كبير ، و مصدر عظمة الإسلام و إتحاد المسلمين و تقوية شوكتهم ، فهو من جانب يُرعب أعداء الإسلام و يفشل خططهم الاستعمارية ، و من جانب آخر فهو يبُثُ في نفوس المسلمين كل عام روح الإيمان و التقوى و الجهاد و الإلتزام الديني ، و الوحدة الإسلامية ، و يُبصِّرَهم هموم الأمة ، كما و يُشعرهم بقوتهم و عزتهم ، الأمر الذي يُرعب الأعداء و ينغص عيشهم و يربك مخططاته التآمريَّة تجاه الأمة الإسلامية .
و هناك كلمة مشهورة تُنسب لأحد الساسة الأجانب تكشف عن أهمية الجانب السياسي للحج في تقييم الساسة غير المسلمين ، حيث يقول : ” ويل للمسلمين إذا لم يعرفوا معنى الحج ، و ويلٌ لأعداءِ الإسلام إذا أدرك المسلمون معنى الحج ! ” .
هذا و ينبغي على علماء الإسلام المخلصين ، و الساسة المفكرين ، و رجال الأعمال و الإقتصاديين ، و الخبراء و أصحاب القرار في العالم الإسلامي التنسيق فيما بينهم لأجل عقد المؤتمرات المختلفة المختصة خلال موسم الحج لتبادل الأفكار و تلاقيها و بلورتها و صياغتها ، و التشاور فيما بينهم في قضايا الأمة الإسلامية بهدف تنمية الرؤى و الأفكار الكفيلة بوضع الحلول الناجعة لمعالجة آلام الأمة الإسلامية و مشاكلها المتزايدة ، و النهوض بها إلى مستوى قول الله عَزَّ و جَلَّ : ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ … ﴾ 12 ، و جعل موسم الحج ملتقىً إيمانياً و تربوياً و ثقافياً و سياسياً و إقتصادياً مباركاً بتوفيق من الله العلي القدير .
جملة من فوائد الحج :
ذكرت الأحاديث الشريفة عدداً من الفوائد و الثمار التي يجنيها حجاج بيت الله الحرام من الحج ، و ها نحن نذكر نماذج من هذه الأحاديث لمزيد من الفائدة :
1. رَوَى الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) عَنْ آبَائِهِ ( عليهم السلام ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) : ” الْحَجَّةُ ثَوَابُهَا الْجَنَّةُ وَ الْعُمْرَةُ كَفَّارَةٌ لِكُلِّ ذَنْبٍ ” 13 .
2. وَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ 8 ( عليه السلام ) إِنِّي قَدْ وَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَى لُزُومِ الْحَجِّ كُلَّ عَامٍ بِنَفْسِي أَوْ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي بِمَالِي .
فَقَالَ : ” وَ قَدْ عَزَمْتَ عَلَى ذَلِكَ ” ؟ .
قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ .
قَالَ : ” إِنْ فَعَلْتَ فَأَبْشِرْ بِكَثْرَةِ الْمَالِ ” 13 .
وَ قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ” الْحُجَّاجُ يَصْدُرُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ : صِنْفٌ يُعْتَقُ مِنَ النَّارِ ، وَ صِنْفٌ يَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ كَهَيْئَةِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ، وَ صِنْفٌ يُحْفَظُ فِي أَهْلِهِ وَ مَالِهِ ، فَذَاكَ أَدْنَى مَا يَرْجِعُ بِهِ الْحَاجُّ ” 13 .
3. وَ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ 14 ( عليه السلام ) يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) : ” لَا يُحَالِفُ الْفَقْرُ وَ الْحُمَّى مُدْمِنَ الْحَجِّ وَ الْعُمْرَةِ ” 15 .
كما و ينبغي لزعماء المسلمين و علمائهم و مفكريهم التعاون في مجال وضع الخُطط العَمَلية ـ وفقاً للأساليب العلمية الحديثة ـ التي تُمَكِّن المسلمين من أداء فريضة الحج بيُسر و بأفضل وجه و بأقل تكلفة مادية و في أجواء إيمانية و روحانية مميزة و بقدرة إستيعابية لأكبر قدر ممكن من الحجاج ، كل ذلك من أجل الوصول إلى أهداف الحج السامية و تحقيق أمنية الوحدة و الأخوة الإسلامية .
- 1. القران الكريم : سورة الحج ( 22 ) ، الآية : 27 و 28 ، الصفحة : 335 .
- 2. أي أنّ البلاء الإلهي سيشملكم .
- 3. نهج البلاغة : 422 ، طبعة صبحي الصالح ، و الكافي : 7 / 52 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني ، المُلَقَّب بثقة الإسلام ، المتوفى سنة : 329 هجرية ، طبعة دار الكتب الإسلامية ، سنة : 13655 هجرية / شمسية ، طهران / إيران .
- 4. نهج البلاغة : 45 ، طبعة صبحي الصالح .
- 5. نهج البلاغة : 512 ، طبعة صبحي الصالح .
- 6. راجع شرح نهج البلاغة : 19 / 86 ، لأبن أبي الحديد .
- 7. بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 29 / 223 ، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، المولود باصفهان سنة : 1037 ، و المتوفى بها سنة : 1110 هجرية ، طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 14144 هجرية .
- 8. a. b. أي الإمام جعفر بن محمد الصَّادق ( عليه السَّلام ) ، سادس أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) .
- 9. وسائل الشيعة ( تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ) : 11 / 14 ، للشيخ محمد بن الحسن بن علي ، المعروف بالحُر العاملي ، المولود سنة : 1033 هجرية بجبل عامل لبنان ، و المتوفى سنة : 11044 هجرية بمشهد الإمام الرضا ( عليه السَّلام ) و المدفون بها ، طبعة : مؤسسة آل البيت ، سنة : 1409 هجرية ، قم / إيران .
- 10. الكافي : 4 / 252 .
- 11. نهج البلاغة : 494 ، طبعة صبحي الصالح .
- 12. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 110 ، الصفحة : 64 .
- 13. a. b. c. الكافي : 4 / 253 .
- 14. أي الإمام محمد بن علي الباقر ( عليه السَّلام ) ، خامس أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) .
- 15. الكافي : 4 / 254 .