في الحج لقاء الرب
روح الإنسان وعقله كبيران ، وتطلعه سامٍ لا يحده حدٌّ مادي معين ، لأنه قد خُلق ليكون جليس الله ؛ الله رب الكائنات ؛ خالق السماوات والأرضين .
هذه الروح لا يمكن أن تشبعها الدنيا بما فيها ، وكان طالب الدنيا كشارب ماء البحر ، كلما يشرب منه غَرفة أزداد عطشاً . . وقد جاء في الحديث الشريف : ” منهومان لا يشبعان ؛ طالب علم وطالب مال ” 1 .
ولكن الشيء أو الأمر الأوحد القادر على إشباع روح الإنسان ويرفعه إلى ذروة التألق والانسجام فيصل إلى ما يطمح ويبتغي ، هو لقاء الله سبحانه وتعالى . وقد روي عن أئمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام أن في يوم القيامة يخرج عنق – طائفة – من الناس ، فيتجلى لهم ربنا ذو العزة والكمال بنوره ويشرق عليهم ببهائه ، فيخرون له سجداً لمدة خمسة عشر ألف عام . في حين أن غيرهم من المؤمنين قد أُدخلوا الجنة وسكنوا القصور وعانقوا الحور ، فينشغل أولئك الساجدون بذكر الله وتسبيحه ، فيأتيهم النداء القدسي أن قوموا إلى الجنة التي أعدها الله لكم . فيقولون : يا ربنا ! إن ما نحن فيه من لذة أعظم من الجنة !!
إن هذا التطلع يجعل الإنسان يلتذ بإشراقه من نور الله أكثر مما يلتذ بالطعام والشراب والنوم والشهوة الجنسية والمال والمنصب والقوة ، وقد صور لنا أمير المؤمنين عليه السلام هذه اللذة الروحية حينما قام يصلي في محرابه بعيد معركة صفين ، دون أن يأبه بالألم الرهيب الذي تعرض له جراء إخراج سهم قد نبت في رجله أثناء المعركة وكان من الصعب انتزاعه في ساعة أخرى غير ساعة الصلاة . لقد كان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في لحظات الصلاة في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، إذ كانت روحه تناجي ربها مناجاةً لا يحجزها البحث عن لذة مادية أو طموح مادي أو ألم آني . .
وها أنتم أيها الحجاج الكرام قد جئتم جميعاً إلى هذه الأرض لتحظوا بلقاء الله سبحانه وتعالى والنظر إلى نوره المشرق أبداً .
أو تدرون لماذا أمرنا ربنا عز اسمه بالوقوف في الميقات فننزع عنا ثيابنا ونرتدي ملابس الإحرام ونقول بصوت واحد : ” لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ” أو أن نحسر عن رؤوسنا و نهجر الشهوات . . ؟ أو لماذا امرنا بأن نقطع الفيافي قاصدين هذه الأرض الجرداء ، فنطوف حول صخور سوداء ونسعى بين جبلين ؟ إنما أمرنا الله بذلك لكي يسقينا من يده شراباً طهوراً . . وهذا الشراب ليس ماءً ولا عسلاً ولا خمراً ولا لبناً ، بل هو شراب اللقاء وإشراقة الروح ، وهو النافذة التي تفتح لنا في أيام الحج المباركة على عالم الغيب ، وهذه النافذة لا أحد يعلم موعد فتحها ؛ فقد يكون في الطواف أو السعي بين الصفا والمروة أو في موقف عرفة أو منى . . فكل حاج يفتح الله أمام بصيرته نافذة على الغيب بطريقته الحكيمة الخاصة ، فيستجيب له دعاءه الذي يقول فيه : ” اللهم أنر قلوبنا بضياء نظرها إليك ، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور ، فتصل إلى معدن العظمة ، وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك ” 2 . .
إنني ومنذ فترة طويلة أحرص على مرافقة الحجاج وخدمتهم ، طالباً إلى الله سبحانه وتعالى أن يسقيني من ذلك الشراب الذي وعد عباده المؤمنين .
وها أنا ذا أقصد هذه الديار المقدسة منذ سنين مديدة مفتشاً عن أولياء الله وأحبائه . . فو الله لقد شاهدت ذات مرة رجلاً عالماً من علمائنا الكرام ـ وكان ذلك قبل ثمان وثلاثين عاماً ـ واقفاً في عرفة ، حيث لا ظل يقيه حر الشمس في شهر تموز ، وقدماه غاصتان في الرمال الملتهبة ، ودموعه تجري لساعات طويلة وكأنها الميزاب . . فحدثتني نفسي أن هذا الرجل هالك لا محالة ، حتى سمعت زميله يقول : بأن هذا السيد العالم كان يئن و يبكي في المزدلفة من أول الليل حتى الصباح !!
فيا ترى ما الذي شاهده هذا الرجل ؟!
وقد رأيت العديد من الحجاج الشباب يعفّرون وجوههم في تراب عرفة و يبكون بكاء الثكلى ، فماذا وجدوا ؟!
أقول : إن كل هؤلاء قد سقاهم الله تلك الشربة ، وفتح أمامهم نافذة على نوره . . وهذا النور هو الذي يجذب المرء ليؤدي حجة وحجات أخرى ، لأنه كلما حجاً ، ازداد شوقاً . . والذين لهم هذه التجربة يعرفون ما أقصد تماماً ، لأنهم ذاقوا حلاوة المناجاة والتقوا ربهم . فها هنا ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ ميعاد اللقاء بوجه الله تقدست أسماؤه .
إنك أيها الحاج ؛ ضيف الرحمن . هنا تأكل وتشرب وتنام وتتنفس معززاً مكرماً في ضيافة الرب الكريم ، والملائكة تحف بك من كل جانب ، حتى أن حركاتك وسكناتك كلها تسجل في قائمة حسناتك ، مادمت قد اخترت الهجرة إلى ربك .
ولذلك ؛ كان لزاماً عليك أن تعرف قيمة ذاتك وتوليها الاحترام ، فعشرات الملايين غيرك يتمنون الحج ولكنهم لا يوفّقون إليه .
ولتعلم أن بينك وبين الله حجب وموانع لابد أن تتساقط وترفع حتى تتمكن من النظر إلى وجه الله تعالى . فإذا صلّيت ـ مثلاً ـ ولكنك تنبهت إلى عدم وجود الخشوع فيها ، فاعرف أن هناك ذنوباً لما تغفر بعد ، وعيوباً لما تتطهر منها ، وحجباً لما تزال . وإنك لم تقصد أداء فريضة الحج إلا لرفع تلكم الحجب التي وجودها لا يصب في صالحك وصالح آخرتك . فإن أنت لم ترفعها في هذه الدنيا ، رُفعت عنك بالانتقام أو عبر سكرات الموت أو بواسطة عذاب القبر أو عن طريق سياط النار في جهنم والعياذ بالله .
إنك إذا استطعت ـ بحول الله وقوته ـ أن ترفع الحجب وتعبر الحواجز النفسية ، ستصل إلى معدن العظمة ، وستتعلق روحك بعز قدس الله سبحانه وتعالى . فإذا وصلت إلى هناك ، ستجد أن كل شيء آخر في هذا الطريق هباءً .
ثم لا تنس أنك وفد الله إليه ، قد قصدته من شقة بعيدة وبذلت الأموال ، وذلك لتتزود فكراً ورؤية وبصيرة وعزماً إلى مجتمعك ؛ أي أنك لا تستطيع أن تقتصر في هذه الأمور المصيرية على ذاتك وحدها ، بل عليك أن ترجع إلى بلادك لتحمل إليها ما ينفعها من الزاد الفكري والروحي والمعنوي . فبلادك اليوم تهب عليها أعاصير الفتن عبر أكثر من خمسمائة شبكة فضائية ينطق معظمها باسم الشيطان ، وكذلك تعصفه بها فتن الانترنيت وعشرات المنظمات لتصدير المخدرات والجريمة والميوعة من أجل إفساد أخلاق الشباب والشابات . . وهذه كلها مشاكل ينبغي عليك المساهمة ما استطعت في حلها عبر ما تزودت به من إيحاءات الحج ورسالته المقدسة .
فتتشاور أنت ورفقاؤك في الحج في كيفية تربية أولادكم ، وحل ما لديكم من مشاكل إذا رجعتم إلى بلادكم .
والأخوات الحاجات مسؤولات أيضاً ، إذ لابد أن يسألن كل واحدة منهن الأخرى عن طريقتها في تربية أولادها ، وعن كيفية معالجتها لمشاكلهم ، وعما ذا يجب القيام به للمساهمة في تغيير واقع الأمة والأسرة على الأقل نحو ما يريده الله سبحانه .
إن موسم الحج فرصة ثمينة قد لا تعوض في أن يقفز المرء بمستواه الفكري والروحي والنفسي . . فيعيد النظر في منهج حياته وحركاته وسكناته وتصوراته وقناعاته ، لأن أعداء الله كانوا قد خططوا لأنفسهم منذ سنين طويلة حتى وصلوا إلى هذه المرحلة الراهنة ؛ أي مرحلة اكتساح أرضنا وتاريخنا وشبابنا وكل شيء قد نتصور امتلاكه . وإذا ما تبادلنا اللوم والاتهامات وتفويض المسؤوليات جرفنا السيل ، وإذ ذاك لن ينفعنا ندم ولا آهة وفوجئنا بمثولنا أمام الله عز وجل ، ولعننا أولادنا بدلاً من أن يترحموا علينا .
إذن ؛ فلابد من إعادة النظر بشكل تام في السلوك والمنهج ، وعلى الأم بالذات مسؤولة عن التعرف على أساليب التربية القرآنية في ظل هذه الأوضاع الثقافية والأخلاقية المفتوحة ، وليس لها الاكتفاء بأساليب التربية التي كانت تعتمدها في الأجواء المغلقة السابقة . إن هذا الانفتاح الثقافي يدعو الأم إلى مزيد من التفكير في كيفية تحصين أولادها وتزويدهم بالمناعة اللازمة لمقاومة التحديات والوساوس الشيطانية .
يجب أن يتحدث الأبوان طويلاً طويلاً إلى بعضهما بخصوص كيفية تربية طفلهما تربية دينية متكاملة ؛ بعيدة عن العقد النفسية ، وبعيدة عن الضعف .
فالأم عليها أن تكون أمّاً نموذجية ، أمّاً تستطيع تربية ولدها وهو جنين في بطنها حتى يلد وينمو ويشب ثم يصير رجلاً مسؤولاً عن نفسه .
والأب كذلك ؛ عليه أن يشارك الأم في هموم التربية الواعية ، كما عليه أن يصرف الأموال على أولاده في إطار تنمية مواهبهم الدينية والعقلية وتقوية الإرادة فيهم .
إن أطفالنا ـ إذا ما أردنا لهم خير الدنيا والآخرة ـ يجب أن يتربوا في ظل القرآن وسيرة النبي وأهل بيته عليه وعليهم الصلاة والسلام ، وفي ظل الكعبة والمشاهد المشرفة ، كما يجب أن يشاهدوا بأم أعينهم جوانب الدين الإيجابية وإشراقاته . ولتعرف الأم وليعرف الأب أن أولادهم إذا تربوا على أفلام الكارتون وغيرها مما تبثه شبكات التلفزة ، فإنهم لن يكونوا أولادهم روحياً ، وإن كانوا قد خرجوا من رحم الأم وصلب الأب مادياً . .
إننا إذا لم نفكر في إصلاح أنفسنا وإصلاح اُمتنا عند بيت الله الحرام وعند عرفات ، فمتى سنفكر بذلك يا ترى ؟!
إن المؤمنين كخطباء وعلماء وتجار وكسبة وطلاب وموظفين وغير ذلك بإمكانهم التجديد في أساليبهم وبرامجهم ، إذ الجميع مسؤول وقادر على تغيير المعادلة لصالح الدين ؛ والدين هو الحق ، والحق معهم ، لأن الله ينصر من ينصره ، وهو القوي العزيز ، ولأنه قد وعد عباده الصالحين بأن يستخلفهم في الأرض ، ولأن العاقبة للمتقين ، ونحن لا نشك في ذلك أبداً .
فتعالوا ـ أيها المؤمنون ـ نشد العزم على محاربة الفساد بأنواعه ، ونحمل زاد التقوى من حجنا هذا إلى بلادنا ، فنقيها شر الفتن والأعاصير والشبهات وما يفسد أخلاق جيلنا هذا والأجيال التي ستليه والله المستعان 3 .