الحج التوبة و صرح التقوى
ونحن الآن نعيش أجواء الحج الروحية المفعمة بالقداسة والنزاهة ، نستطيع خلالها الحصول على نعم ربانية أخرى ، لأن الله تبارك اسمه لا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً ، فلا يتوقف عطاؤه عند حد ، وهو كلما أعطاك كلما أراد أن يعطيك مرة أخرى ، حتى تصل إلى مستوى الإشباع المطلق . وهذا الواقع هو ما يبينه قوله سبحانه لنبيه الكريم ولمن شاء وارتضى: ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ﴾ 1 ، حيث تتحقق كل طموحات وآمال وأحلام المؤمنين ، فما بالنا نحن الحجيج وقد وعدنا ربنا العطاء ، وكانت وسيلتنا إليه الرسول وأهل بيته الطاهرين عليه وعليهم السلام ، حيث دخلنا باب الرحمة الإلهية من أوسع أبوابها ، وهي باب الرسالة عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
إننا إذا فتحنا عيون بصائرنا ، ونفذنا إلى عمق أعماق الغيب ، وجدنا آثار الوحي في الأرض التي تمشي عليها ، فهنا مشت أقدام رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهناك كانت تخطو أقدام مولاتنا السيدة الزهراء عليها السلام ، وهنا آثار أقدام الأئمة الأطهار عليهم السلام .
أيها الإخوة والأخوات الكرام ؛ إن أمامنا رحلة طويلة للغاية حتى نصل إلى ربنا العزيز العليم . . وقد كان إمامنا أمير المؤمنين علي عليه السلام يعرف تماماً ماذا تعني هذه الرحلة ، إذ كان يقف بين نخيلات بني النجار ويقول متعذباً : ” آهٍ آهٍ من وحشة الطريق . . ومن طول السفر ، آهٍ آهٍ من قلة الزاد ” 2 كان يبكي كالواله حتى يقع مغشياً عليه . .
في هذه الرحلة الطويلة ، ماذا يراد أن يفعل بنا ؟
ترى ما هو الموت وحشرجته وسكراته ، وماذا يعاني منها الإنسان ؟!
ترى ما هو القبر والبرزخ الذي قد يفصلنا بملايين السنين عن البعث ثم يوم القيامة والحساب ؟!
لقد كان إمامنا الإمام الحسن المجتبى عليه السلام كثير البكاء ، حتى عند وفاته ، ولما سئل عن سرّ بكائه وهو سيد شباب أهل الجنة وسبط الرسول الأول ، قال : ” أبكي لخصلتين : لفراق الأحبّة ولهول المطّلع ” 3 . أي أن سيد شباب أهل الجنة كان يحذر كل الحذر من لحظة القيام والطلوع من القبر باتجاه البعث . .
وإنها لفرصة ثمينة جداً لي ولك ـ أيها الحاج ـ إذ نرتدي ملابس الإحرام ، فنتمثل لحظة موتنا وتكفيننا ثم خروجنا من قبرنا إلى مبعثنا واتجاهنا إلى ساحة الحشر في يوم القيامة .
يقول الله سبحانه: ﴿ … وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ 4 . ومن المعلوم أنه لا يجد أحداً شيئاً لم يكن قد أضاعه من قبل ، والإنسان ـ بطبيعته ـ حينما يقترف الذنب بعد الذنب فإنه سيضيع الطريق إلى الله عز وجل . ولكنه إذ يعود إلى جادة الإيمان والاستغفار سيجد الله بعد غفلة ، فترتفع عنه ذنوبه وتنزاح عنه الحجب ، لا سيما وأن الحاج يعلن استغفاره عند رسول الله وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام .
إنه سيجد الله ويراه تواباً ـ أي كثير التوبة على عباده ـ رحيماً بهم . . وكان حرياً بالإنسان الحاج أن يقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله معلناً توبته النصوح ، ومعبراً تعبيراً صادقاً عن كل ما يعتوره من قلق ورعب إزاء ما كان قد ارتكبه من موبقات ، وما عاناه من تعب ونصب في طريقه إلى أداء فريضة .
إن رحلة التوبة والعودة هذي ، ومستوى المعاناة والمشاكل التي يلاقيها الحاج في موسمه ، كلها تشكل مفردات التزود بالتقوى الذي أمره الله عز وجل باكتسابه خلال الحج .
هل تعلم ـ أيها الحاج ـ إن مثل من يقصد أداء فريضة الحج مثل من يقصد الحمام ، إذ لا يجد بهذا الأخير أن يخرج منه وسخاً قذراً كما دخله ، أو كمثل المريض الذي يقصد المستشفى ولابد له أن يغادرها سليماً معافى ، ودون ذلك يكون كمن نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، حيث لم يصادف إلا الألم والمعاناة وتبذير الأموال . كذلك هو الحاج القادم إلى الأرض المقدسة ، لابد له أن يقرر تطهير قلبه من الأدران والموبقات ، ويصمم على عدم العودة إلى الذنوب والمشاكل مع ذاته ومع الآخرين . . لأنه لا ضمانة بين يديه تؤكد له عودته إلى الحج مرة أخرى ، فضلاً عن الحصول على الموفقية فيها .
فتعالوا أيها المؤمنون إلى التعرف على ذنوبنا التي يجب أن نتوب منها ، فنعددها الواحد بعد الآخر . . صغيرها وكبيرها ، لأن ذلك من شأنه مضاعفة التصميم والعهد على التوبة ، لا سيما تلك الذنوب التي قد نقترفها عن عمد أو سهو ، عن وعي أو لا وعي ، بحق أبنائنا ونوعية رعايتنا وتربيتنا لهم ، وبالأخص بالنسبة إلى الذين كتبت علينا الغربة والهجرة ، فأصبح من الضروري للغاية التركيز والوعي التام لأساليب التربية التي من المفروض الالتزام بها ، لأن أي انحراف يصيب أولادنا سنسأل عنه في يوم القيامة من قبل الله سبحانه وتعالى ، فضلاً عن المسؤولية التاريخية والاجتماعية التي ستطالبنا الأجيال بها وتديننا لأجل عدم تحملها .
من هنا أدعو الحجاج والقادمون من مختلف بقاع الأرض ؛ أدعوكم دعوةً ملحّةً إلى إيلاء المزيد من الاهتمام بأولادكم من الناحية الروحية والمعنوية والثقافية كما تهتمون بهم من الناحية المادية .
ثم أدعوكم أن تجعلوا من بيوتكم في بلدان المهجر متقاربة إلى بعض ، لكي يكون ذلك عائقاً ومانعاً دون ذوبانكم في المجتمع الغربي وثقافته المادية البعيدة عن قوانين السماء ، فكونوا معاً وأسسوا مجتمعكم الخاص بكم ، ليحل بعضكم مشاكل بعض ، وليفرح بعضكم بفرح بعض .
وكذلك أؤكد عليكم أن تلتزموا بالتعاليم الدينية ونصوصها الكريمة المباركة ، وتعلموها أولادكم ؛ مثل الآيات القرآنية ونصوص الأدعية والزيارات والأحاديث والروايات . . فهي كلها بمثابة الحصن الحصين لصيانة تربية الجيل وروحياته وأخلاقه .
ولتسعَوّا أيها الحجاج المغتربون جغرافياً إلى تأسيس مراكز علمية ودينية خاصة بكم في مناطق سكناكم حينما ترجعون ، وذلك لتأصيل الروح القرآنية في أنفسكم وأولادكم ، ولتحاشي خطر الانخراط السلبي في التركيبة الغربية والأميركية التي تواجهونها . . وتأسيس مثل تلكم المراكز يتطلب بادئ ذي بدء إرسال بعضاً من أولادكم إلى مراكز العلم والدين في البلاد الإسلامية ، حتى يعودوا إليكم مبلغين صالحين يفهمون الدين من جانب ، ويعون حقيقة المتطلبات الروحية والأخلاقية والثقافية التي تفرض ذاتها في المجتمع الغربي .
وأخيراً أود تذكيركم بألاّ تغفلوا عن لغة أولادكم ، فتسلب اللغة العربية من ذاكرتهم . فهي لغة القرآن ولغة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ، ومن دون هذه اللغة قد يكون فهم الدين عسيراً ، على الأقل من الجانب النظري .
إنكم سترجعون إلى بلدانكم بمثل هذا البرنامج الذي هو عبارة عن ترجمة عملية لمشروع التوبة الذي بدأتموه في هذه الأرض المقدسة وقبر النبي وآل بيته الطاهرين . . فاعملوا ما يضمن لكم سلامة أولادكم ، وما يضمن لكم أداءكم المسؤولية الدينية الخطيرة تجاههم ، فهي عين التزود بالتقوى وفيها تجدون طعم الإيمان وروح اليقين 5 .
- 1. القران الكريم: سورة الضحى (93)، الآية: 5، الصفحة: 596.
- 2. بحار الأنوار : 40 / 345 .
- 3. بحار الأنوار : 6 / 160 .
- 4. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 64، الصفحة: 88.
- 5. كتاب : ” في رحاب بيت الله ” و هو مجموعة من خطب و كلمات ألقاها سماحة آية الله السيد محمد تقي المدرسي في سفرة الحج على حملات الحجاج من أطراف الأرض وأكنافها : الفصل الثاني .