Hadj Diversen

فلسفة الحج وأسرار حكمه

فلسفة الحجّ وأسرار مناسكه

إنَّ البحث في مسألة الحجّ ومكانته في الشريعة الإسلامية وإن بدا مختصراً وموجزاً، وكذلك البحث في موقعه من الأحكام والفرائض الإسلامية والاهتمام البالغ الذي أبداه الوحي والقرآن والسنّة تجاه الحجّ، ودراسة ماهية وعمق أحكام الحجّ وشعائره والقدم التأريخي الذي يتمتّع به الحجّ، والعلاقة الوثيقة والصّحيحة الّتي تربط الحجّ بأصل التوحيد، كلّ ذلك يمكنه أن يوضّح لنا الخلفيّة لأفق الفلسفة الواسعة الّتي يمتلكها الحجّ، وبحور أسراره العميقة والأغوار المكنونة في مضمون هذه الشعيرة والعبادة.

 

لاشكّ في أنّ الحجّ هو أحد أكبر الفرائض الإسلامية(1)، وأعظم شعائر الدين(2)، وأفضل الأعمال التي يُراد بها التقرّب إلى الله تعالى(3)، وهو ركنٌ من أركان الدين(4)، وتركه ارتكابٌ لكبيرة من الكبائر(5)، ممّا يتسبّب في خروج المرء عن جادّة الإسلام والمسلمين(6)، ويؤدّي إلى كفره(7).

 

ذلكم هو الحجّ الذي يكافح ويناضل المسلم في سبيل أداء مناسكه، ويتمرّغ على تراب الذُلّ ويُحمِّلُ نفسه مشقّة وتعباً عظيمين، ويعاني مرارة الغُربة والهجران، ويمسك عن جميع ميوله ولذّاته، ويمتنع عن كثير من عاداته وطبائعه، باذلا القدر الأكبر من مصاريفه لذلك، ويتحمّل أعباءَ حجّة مهما بلغت صعوبتها من أجل تنفيذ أمر من أوامر الباري عزّوجلّ(8).

 

ومع أنَّ الحجَّ يبدو وكأنّه عبادة من العبادات الأخرى، إلاّ أنَّ هذه العبادة تجمع في جنباتها- في الواقع- عبادات كبيرة عِدّة(9)، ولايمكن لأيّ عبادة أن توازيه في ذلك(10)، ولا ثواب لهذه الفريضة سوى حيازة رضوان الله ودخول جنّته(11)، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لو أنفقتَ في سبيل الله بحجم جبل أبي قُبيس ذهباً، فإنّك لن تصل مرتبة الحاجّ وما يحوزه من القَدر»(12).

 

إنّه الحجّ الذي يُزيح عن كاهل المؤمن الكثير من المعاصي الكبيرة بأدائه هذه الفريضة، يمحو عن قلبه كلّ صَدإ سبّبته سيئاته فيكون كمن ولدته أمّه توّاً(13)، ولا تكتب ضدّه سيئة أخرى حتّى مرور أربعة أشهر ما دام الحاجّ لم يرتكب كبيرة إثر ذلك، وتكتب له عوضاً عن ذلك حسنات كثيرة(14).

 

لقد كان الحجّ فريضة مفروضة في أولى الشرائع الإلهيّة، وأدّاه الملائكة وآدم وحوّاء وأنبياء الله جميعاً على أكمل وجه(15) وأدخَلَ إبراهيم إمام الموحّدين تعديلات عليه وَجدَّده(16) وأُمِرَ إسماعيل بالتمهيد لإقامة تلك الشعيرة المقدّسة(17)، وقد أدّى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) شعائر هذه الفريضة مرّات عديدة رغم كلّ الصعوبات الّتي واجهته(18) وسعى مدى سنوات طوال لتثبيت هذه الفريضة، وتهيئة المسلمين لإقامة الحجّ الحقيقي. ووُفّق أخيراً وبعد الحوادث المريرة، والغزوات المتعدّدة. وبعد جهاد بالنّفس والمال والرّوح، وبذل أغلى الشهداء والأعزّاء، وقادة وروّاد الإسلام، وُفِّقَ بالدخول إلى مكّة في السنة الثامنة من الهجرة، وتمّ فتحها من قِبَلِ المسلمين، فأدّى (صلى الله عليه وآله وسلم) حجة الوداع بعد ذلك في السنة التاسعة للهجرة بصحبة آلاف مؤلّفة من المسلمين والصحابة(19)، بكلّ إجلال وأبّهة في جوٍّ تملأه المعنويات الطاهرة، والإخلاص التامّ ممزوجاً بالقُدرة والسلطان الكبيرين للإسلام(20).

 

ومع وجود نفي الإكراه في الدّين(21)، وطبقاً لسيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) المبيّنة على أساس ترك إجبار النّاس على فعل يكرهونه(22)، وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) الواضح في هذا المجال وهو «لستُ أرى أن أجبر أحداً على عمل يكرهه»(23)، فإنّ الوالي والحاكم بإمكانه اجبار جماعة بالفعل; ذلك من أجل إحياء حجّ بيت الله الحرام(24).

 

حقّاً إنَّ الحجَّ اختبارٌ كبير لعباد الله(25)، إذ يتعامل الإنسان في الحجّ مع الحجارة والصحراء والصخور والحصى الّتي لاتضرّ ولاتنفع(26) وظلّت الأعمال الّتي يمارسها الحاجّ موضع دهشة الكثير من العقائد الضالّة(27).

 

الحجّ هو زيارة بيت الله الحرام(28)، البيت الذي يبدو وكأنّه يُعبد كما تلوح به الأعمال في الحجّ(29)، ومثابة للناس وأمناً وقبلةً يتوجّه نحوها الجميع في عباداتهم(30)، وشعبة من جنّة الرضوان(31)، والطريق المؤدّي إلى غفران الله(32) ومجمع عظمته وجلاله(33)، وأوّل بقعة خُلقت في الأرض(34).

 

وكان إبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) المنادي للحجّ(35) حيث لبّت نداءَه كلّ النّطف الطاهرة عبر التأريخ(36) وكانت الملائكة تؤدّي ذلك قبل آدم أبي البشر بآلاف السنين الطويلة(37).

 

ويجذب الحجّ نحوه، كما هو الحال مع متشابه آي القرآن مقارنة مع محكمه، كلّ الأفكار عِبْرَ زوايا ومنعطفات وأبعاد مختلفة، فيخلّف وراءه الخلود والأثر البالغ والتهذيب والحداثة الدائمة في بؤر التأريخ المندثرة.

 

وليس الحجّ لغةَ عقيدة معيّنة، أو دستوراً مُحدّداً أو قيماً متفرّقة فحسب، بل هو مرآةٌ تعكس وجهات النظر لكلّ المدارس والمذاهب، وصورة مُصغّرة لكلّ ما يحتويه الإسلام، ذلك الإسلام الذي خرج بشكل قرآن مجيد مُبيّن الكلمات، وواضح الأسلوب، وتجلّى في قالب الإمام والإمامة فصار حركات وملامح تمثّلت في الحجّ. ويبدو أنّ كلَّ ما أراد الله تلقينه للبشر وتفهيمه إيّاه، قد صبّه في قالب يُدعى الحجّ.

 

ذلكم هو الحجّ الذي يسير فيه مخلوق في منتهى الصِغر نحو اللاّنهاية عِبر سَفَر لاينتهي، فتجسّد خلاله فلسفة خَلق بني آدم فيصوغه مشابهاً للتاريخ والعقيدة والأمّة، والُمخرج لكلّ تلك الأحداث هو الله سبحانه، ولغة التمثيل هي الحركة، وشخصياتها وأبطالها هم آدم وإبراهيم الخليل وهاجر وابنها إسماعيل، ومن ثمّ إبليس الذّليل، والماكياج والملابس هما الإحرام، والممثل في المشهد الفردي ذاك الذي هو قطرة في وسط اليمّ هو أنتَ أيّاً كنتَ(38).

 

نعم، إنَّ الحجّ هو انموذجٌ مصغّر من هيكل الإسلام ككلّ، كما سمّـاه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصفه بأنّه الممثّل الوحيد لكلّ شريعة الإسلام(39).

 

ومعَ أنَّ كلا مسؤولٌ عمّا انفق(40)، وصرف في يوم يُحاسبُ فيه حتّى الأنبياء(41)، إلاّ أنّه لايُسئل عن المال المصروف في سبيل تأدية الحج وإقامة شعائره(42)، ذلك لأنَّ ترك هذه الفريضة يؤدّي إلى بروز الفِتن وتسعيرها(43) وإيجاد المهلكة والفجائع بصورة عامّة(44).

 

فالحجّ تفسيرٌ(45) لآية ﴿ففرّوا إلى الله إنّي لكم نذيرٌ مبين﴾ (46) وبيانٌ ومصداقٌ(47) لـ﴿ربّ لولا أخّرتني إلى أجل قريب فاصَّدَّق﴾ (48) وأخيراً فهو ﴿قياماً للناس﴾ (49) ورمز قوّتهم وعزّتهم(50).

وهكذا، فلا يمكن للحجّ أن يكون مجرّد عمل عاديّ، وعبادة بسيطة،

 

وشعيرة ظاهرية بحتة. إنَّ سبر أغوار ما ذكر من الأمور سابقاً يُجسّد لنا هذه الحقيقة وهي: أنَّ الحجّ يمتلك روحاً وعقلا وفلسفة عميقة وراقية، وله أسرارٌ وحكمٌ ولطائف قيّمة جمّة وأهداف وفوائد ونتائج حياتية كبيرة، ألقت بظلالها على حياة الإنسان في البعدين المادّي والمعنويّ، وبالنفوذ ببصيرة إلى أعماق تلك الأعمال الظاهرية. وبالوصول إلى باطن تلك الأعمال يمكننا تفهّم إشاراتها والمشار إليه فيها على السّواء. ﴿إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد﴾ (51).

 

 

مصادرنا في الحصول على فلسفة الحجّ وأسراره:

إنَّ ميزة التفكّر والتعقّل اللتين هما رسول الإنسان في باطن وجوده، وإن كانتا غير عاجزتين عن البحث في فلسفة الحجّ وأسراره المعقدة والعميقة، والآثار الحياتية الكبيرة له وأهدافه في مختلف أبعاده، وكذلك بواسطة تحليل منطقي بعد التنبّه إلى ماهية هذه المراسيم والمناسك والعناصر الأساسية المُشَكِّلة لها، والعلائق والكنايات والإشارات الخاصّة به، كلّ ذلك سوف يمكّننا حتماً من التعرّف على الكثير من هذه الحكم والأسرار. ولكن ونظراً لكون المعطيات والنتائج الحاصلة من ذلك هي عقلية بحتة، لاتخلو أن تكون تلك المعطيات ملوّثة بالإشكالات والهفوات و«دين الله لا يصابُ بالعقول»(52)، ولذا فإنّنا اتّبعنا خطّ سير أكثر أماناً للحصول على فلسفة الحجّ وأسراره، وسنقوم ببحث وتقصّي أحكام وأسرار الحجّ بالاعتماد على نفس المصادر الّتي استخرجنا منها أحكامه ومناسكه.

 

ولحسن الحظّ فإنّ الوحي (الكتاب والسنّة) لم يتركانا سدًى في هذا المجال، حيث وضّحا لنا قسماً كبيراً من أسرار هذه العبادة وآثارها وأهدافها السامية في الحياة الإنسانية.

Geef een antwoord

Het e-mailadres wordt niet gepubliceerd. Vereiste velden zijn gemarkeerd met *